فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



موقع هذه الجملة استئناف بياني لأنّ مضمونها بمنزلة النّتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر.
وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله: {سواء منكم} لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين.
وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى الله عليه وسلم و{سواء} اسم بمعنى مستو.
وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعدًا.
واستعمل سواء في الكلام ملازمًا حالة واحدة فيقال: هما سواء وهم سواء، قال تعالى: {فأنتم فيه سواء}.
وموقع سواء هنا موقع المبتدأ.
و{من أسر القول} فاعل سدّ مسدّ الخبر، ويجوز جعل: {سواء} خبرًا مقدّمًا و: {من أسر} مبتدأ مؤخّرًا و: {منكم} حال: {من أسر}.
والاستخفاء: هنا الخفاء، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب.
والسارب: اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السّرْب بفتح السين وسكون الراء وهو الطريق.
وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة.
وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورًا.
والمعنى: أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى.
والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى: {أو}.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
جملة: {له معقبات} إلى آخرها، يجوز أن تكون متصلة بـ: {من} الموصولة من قوله: {من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} [الرعد: 10].
على أن الجملة خبر ثانٍ عن {من أسر القول} وما عطف عليه.
والضمير في: {له} والضمير المنصوب في: {يحفظونه}، وضميرا: {من بين يديه ومن خلفه} جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى، أي لكل من أسرّ القول ومنْ جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات.
ويجوز أن تتصل الجملة بـ: {من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} [الرعد: 10]، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول.
والمعنى كالوجه الأول.
والمعقبات جمع معَقّبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عَقّبه إذا تبعه.
وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب.
يقال: عقبه إذا اتبعه واشتقاته من العقب يقال فكسر وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فَعِل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه، والمراد: ملائكة معقّبات.
والواحد معقب.
وإنما جمع جمع مؤنث بتأويل الجماعات.
والحفظ: المراقبة، ومنه سمي الرقيب حفيظًا.
والمعنى: يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك، قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين} [الانفطار: 10].
و{من بين يديه ومن خلفه} مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها.
وقوله: {من أمر الله} صفة: {معقبات}، أي جماعات من جند الله وأمره، كقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] يعني القرآن.
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مرادًا به الوقاية والصيانة، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم، وأضرارَ النّهار نحو الزحام والقتال، فيكون: {من أمر الله} جارًا ومجرورًا لغوًا متعلقًا بـ: {يحفظونه}، أي يقُونه من مخلوقات الله.
وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم.
قال تعالى: {الله لطيف بعباده} [سورة الشورى: 19].
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة: {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا} [سورة الرعد: 12].
والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير {وقالوا لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} [المزمل: 11].
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلاّ بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم.
والتغيير: التبديل بالمُغاير، فلا جرم أنه تديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها.
فما صدقُ ما {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} الموصولة حالة، والباء للملابسة، أي حالة ملابسة لقوم، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير، وأما غيرها فتغييره مطلوب.
وأطلق التغيير في قوله: {حتى يغيروا} على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي.
وجملة: {وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له} تصريح بمفهوم الغاية المسْتفاد من: {حتى يغيروا ما بأنفسهم} تأكيدًا للتحذير.
لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفهسم لا يَردّ إرادته شيء.
وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا: سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا.
وهذا كقوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} [سورة يونس: 98] الآية.
وجملة {وما لهم من دونه من وال} زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله.
والوالي: الذي يلي أمر أحد، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع، مشتق من ولي إذا قَرب، وهو قرب ملابسة ومعالجة. وقرأ الجمهور: {من وال} بتنوين: {وال} دون ياء في الوصل والوقف.
وقرأه ابن كثير بياء بعد اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى: {ومن يضلل الله فما له من هاد} في هذه السورة الرعد [33]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السر والجهر عنه سواء، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضًا سواء: لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفى كما يعلم الظاهر، وقد أوضح هذا المعنى في آيات آخر كقوله: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 13-14] وقوله: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] وقوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] الآية- إلى غير ذلك من الآيات.
وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار: أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث بشاء. ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ** ونحن خلعنا قيده فهو سارب

أي ذاهب حيث يشاء ظاهر غير خاف.
وقول قيس بن الخطيم:
أني سربت وكنت غير سروب ** وتقرب الأحلام غير قريب

وقيل السارب: الداخل في السرب ليتواري فيه، والميتخفي الظاهر منخفاه يخفيه: إذا أظهره. ومنه قول امرئ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنما ** خفاهن ودق من عشى مجلب

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بانفسهم من طاعة الله جل وعلا.
والمعنى: أنه لا يسلب قومًا نعمة أنعما عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا لمعنى في مواضع آخر كقوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] الآية. وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقد بين في هذه الآية أيضًا: أنه إذا اراد قومًا بسوء فلا مرد له، وبين ذلك ايضًا في مواضع أخر كقوله: {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} [الأنعام: 147] ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعّمت البلية الجميع، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
وساعة تسمع كلمة {سواء} فالمقصود بها عدد لا يقل عن اثنين، فنقول سواء زيد وعمرو أو سواء زيد وعمر وبكر وخالد.
والمقصود هنا أنه مادام الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة؛ فأي سر يوجد لابد أن يعلمه سبحانه، وهو سبحانه القائل: {الرحمن عَلَى العرش استوى لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 5-7]
وهل السر هو ما ائتمنتَ عليه غيرك؟ إذا كان السر هو ذلك؛ فالأخْفَى هو ما بَقِى عندك، وإنْ كان السر بمعنى ما يوجد عندك ولم تَقُلْه لأحد؛ فسبحانه يعلمه قبل أن يكون سرًا.
ويتابع سبحانه: {... هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10]
وهكذا جمع الحق سبحانه هنا كل أنواع العمل؛ فالعمل كما نعلم هو شغل الجوارح بمتعلقاتها؛ فعمل اللسان أن يقول وأن يذوق، وعمل الأيدي أن تفعل، وعمل الأذن أن تسمع، وعمل القلب هو النية، والعمل كما نعلم يكون مرَّة قَوْلًا، ومرَّة يكون فِعْلًا.
وهكذا نجد القول وقد أخذ مساحة نصف العمل، لأن البلاغ عن الله قول، وعمل الجوارح خاضعِ لِمَقُول القول من الحق سبحانه وتعالى.
ولذلك أوضح لنا الحق سبحانه أن العمل هو كُلُّ فعل متعلق بالجوارح؛ وأخذ القول شِقًا بمفرده؛ وأخذتْ أفعال الجوارح الشِّقَّ الآخر؛ لأن عمل بقية الجوارح يدخل في إطار ما سمع من منهج الله.
ولذلك تجمع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها كل العمل من قَوْل وفعل: {سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10]
ومَنْ يستخفي بالليل لابد أنه يُدبِّر أمرًا؛ كأن يريد أن يتسمَّع ما وراء كل حركة؛ أو ينظر ما يمكن أنْ يشاهده، وكذلك مَنْ يبرز ويظهر في النهار فالله عالم به.
وكان على الكفار أن ينتبهوا لأمر عجيب كانوا يُسِرُّونه في أنفسهم؛ لحظة أنْ حكى الله؛ فقال: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8]
فكيف عَلِمَ الله ذلك لولا أنه يعلم السِّرَّ وأخْفَي؟
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ...} وكلمة {له} تفيد النفعية، فإذا قلت لك كذا فهي عكس أن نقول عليك كذا. وحين يقول سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ...} [الرعد: 11]
فكأنَّ المُعقِّبات لصالح الإنسان. و{مُعقِّبات} جمع مؤنث، والمفرد مُعقِّبة، أي: أن للحق سبحانه وتعالى ملائكة يتناوبون على حراسة الإنسان وحِفْظه ليلًا ونهارًا من الأشياء التي لا يمكن الاحتراز منها.
والمَثَلُ هو تلك الإحصاءات التي خرجت عن البشر الذين تلدغهم الثعابين، فقد ثبت أنها لا تلدغهم وهم نائمون؛ بل في أثناء صَحْوتهم؛ أي: ساعةَ يكونون في ستْر النوم فهناك ما يحفظهم؛ أما في اليقظة فقد يتصرَّف الإنسان بطَيْشٍ وغَفْلة فتلدغه الأفعى.